تاريخ علم الفلك
كانت الأجرام السماوية تمثل أهمية كبرى لدى الإنسان القديم فقد كانت الشمس توفر له الحرارة و الضوء خلال النهار بينما كان القمر ينير لياليه , و قد مكنت الحركة الظاهرية المنتظمة للشمس في شروقها و غروبها و أوجه القمر و حركة الشمس بالنسبة للنجوم عبر فصول السنة , كل ذلك مكن الإنسان من تنظيم حياته .
و يرجع التدوين المنظم للأرصاد الفلكية للحضارات القديمة خاصة تلك التي قامت في الصين و الهند و أمريكا الجنوبية و بلاد الرافدين . فمن المؤكد أن الصينيين بنوا مزاول شمسية متطورة , كما وضعوا تقويما من 365 يوما و ذلك منذ أكثر من 5000 سنة , و تطور علم الفلك عندهم بحيث برعوا في التنبؤ بالكسوفات و الخسوفات , و يحكى أن فلكيي البلاط هسي و هو أخطآ في توقع كسوف للشمس فأعدما . و المعروف أن الخمسة المتحيرة التي ترى بالعين المجردة : عطارد و الزهرة و المريخ و المشتري و زحل كانت معروفة قبل 2500 سنة قبل الميلاد .
علم الفلك عند البابليون
توصلت حضارات قديمة أخرى غير الصينية إلى إنجازات فلكية عظيمة الأهمية , لكن هذه المعارف تبخرت بانحطاط هذه الحضارات . غير أن الحضارتين البابلية و المصرية شذتا عن هذه القاعدة و انتقلت مهارتهما الفلكية إلى أمم أخرى , فقد أنجز البابليون أرصادا دقيقة عديدة للنجوم و الكواكب , و برعو في علوم الرياضيات , و هم أول من استخدم المنظومة الستينية للأعداد التي يعول عليها إلى يومنا هذا في علم الفلك و المواقيت .
علم الفلك عند المصريون القدماء
أما الحضارة المصرية التي قامت على ضفاف النيل الذي ارتبطت معيشة سكانه الأوائل بفيضاناته , فقد كان التنبؤ بالفيضانات السنوية يشكل أهمية كبيرة , فقد تبين لهم أن التقويم القمري المستخدم آنذاك ليس بالدقة الكافية , و لاحظوا أن فيضانات النيل تطابق طلوع نجم الشعرى اليمانية قبل شروق الشمس , فوضعوا تقويما دقيقا جدا يعتمد على حركة هذا النجم , و كانت سنتهم شمسية عبارة عن 365 يوما و ربع اليوم , رغم استخدامهم لتقويم مدني مدته 365 يوما مقسم إلى 12 شهرا كل شهر 30 يوما , و الأيام الخمسة المتبقية عطلة , و لا يزال هذا التقويم معتمدا إلى يومنا هذا و هو التقويم القبطي .
و حدد المصريون القدماء موقع النجم القطبي الشمالي بدقة عالية , فأحد ممرات خوفوا الأكبر كانت موجهة نحو القطب الشمالي للسماء آنذاك . ذلك أن محور الأرض بسبب مبادرة الإعتدالين يقوم بحركة رحوية مثل الدوامة تجعل القطب الشمالي السماوي يرسم دائرة في السماء خلال 26000 سنة , و كان ممر الهرم الأكبر موجها نحو نجم بصورة التنين و الذي كان النجم القطبي منذ 4500 سنة خلت .
صورة لحركة نقطة القطب الشمالي منذ 5000 قبل الميلاد إلى 2100 م
و مع ذلك كانت أعمال المصريين الفلكية عملية فقط , و لم يقدموا إلا القليل في مجال الفلك النظري , و يحق القول أن الأفكار الثورية في علم الفلك كان عليها أن تنتظر مجيء الإغريق .
علم الفلك عند الإغريق
وضعت أسس العلم - كما نعرفه - على يد الإغريق في الفترة الممتدة ما بين القرن السابع قبل الميلاد و القرن الثاني ميلادي , فقد كان الإغريق مفكرين منطقيين و تجريبيين و يعتبر تطويرهم للهندسة شيئا مدهشا , كما كانت مساهمتهم في علم الفلك عظيمة .
كان طاليس ( ولد سنة 640 قبل الميلاد ) أول فلكي عظيم اعتقد بكروية الكون , ذلك أن الإغريق يعتبرون الدائرة و الكرة من الأشكال الكاملة . و قد أدخل أرسطو ( 384 - 322 قبل الميلاد ) الفكرة القائلة أن الأرض ليست مسطحة , مؤسسا رأيه على مشاهدتين هامتين :
- عرف أرسطو أن مواضع مواقع النجوم في السماء تتغير كلما اتجه الإنسان شمال أو جنوب خط الإستواء .
- لاحظ أن ظل الأرض على القمر عند حدوث خسوف للقمر يكون منحنيا .
و المشاهدتين لا يمكن تفسيرهما إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل .
قام بعدها إراتوستنيس حوالي 230 قبل الميلاد بقياس طول محيط الأرض و حدده ب 38375 كلمتر تقريبا و هي قيمة قريبة جدا من القيمة الصحيحة , و كانت طريقته بسيطة : فقد قام بقياس الفرق الزاوي بين موضعي الشمس زوالا في مدينتي الإسكندرية و أسوان , و بمعرفة المسافة بين المدينتين , يصبح من السهل معرفة المسافة حول الأرض الممثلة للزاوية 360 جة .
أما هيبارك ( 190 - 120 قبل الميلاد ) فربما اعتبر أعظم فلكي إغريقي , من بين إنجازاته العديدة , إختراعه لحساب المثلثات , و و وضعه لتقويم للنجوم , و اكتشافه لحركة مبادرة الإعتدالين التي سبق شرحها في الأعلى . و لقد اعتمد بطليموس في تأليف كتابه الفلكي العظيم المجسطي في القرن الثاني الميلادي بشكل يكاد يكون تاما على نظريات هيبارك .
و رغم أن أرسطارك لمح إلى إمكانية حركة الأرض حول الشمس , فإن النظرة النهائية للإغريق تبلورت في كتاب المجسطي لبطليموس , أي أن الأرض تقع في مركز الكون , و تحيط بها في مدارات دائرية بالتتالي كل من : القمر و كوكبي عطارد و الزهرة ثم الشمس و كواكب المريخ و المشتري و زحل , و يلي ذلك فلك النجوم الثوابت. و لم تكن الحركات المرصودة للكواكب منتظمة تماما كما يجب أن تكون , نتيجة مداراتها الدائرية , مما جعل بطليموس يدخل حركات إضافية اتخذت شكل فلك التدوير , و ذلك للتغلب على هذا النشاز في منظومته .
و كان فلك التدوير عبارة عن دائرة إضافية أصغر من المدار الدائري الرئيسي , و كان مركز فلك التدوير يتحرك حول الدائرة الأساسية التي مركزها الأرض في الوقت الذي يتحرك الكوكب في فلك التدوير متنقلا معه .
علم الفلك في الحضارة الإسلامية
بعد بطليموس مضت قرون عديدة قبل أن يهتم المسلمون بجدية بالأرصاد الفلكية , و أغلب نجوم السماء التي نعرفها اليوم لا زالت تحتفظ بأسمائها العربية .
وعندما جاء الإسلام حصل تطور هائل في فترة ازدهار الدولة الإسلامية وذلك لارتباط الفلك بالدين من حيث العبادات لحساب مواقيت الصلاة وتحديد أوائل الشهور العربية أو لفهم بعض الآيات الكونية حيث حث الله المؤمنين في مواضع شتى للنظر إلى السماء والتفكر في آياتها .
كما قام المسلمون بترجمة الكتب وتنقيحها وتصحيحها ، ووضعوا ذلك في كتب تضمنت جداول ومعلومات أسموها (الأزياج) ، ووضعوا الكثير من الأسس والقواعد الفلكية المهمة ، بل برهنوا على دوران الأرض والكواكب حول الشمس ، وقد بذلوا جهدا كبيرا في وضع قواعد لضبط مواقيت الصلاة ، كما استنتجوا طرقا لحساب بداية الشهور العربية وضبط التقويم الهجري ، كما أجروا التجارب العلمية لحساب خطوط الطول والعرض لشتى المدن الإسلامية وغير ذلك الكثير .
علم الفلك في عصر النهضة الأوروبية
بعد قرون طويلة من السبات العميق استيقظت أوربا على اهتمام متجدد بعلم الفلك ابتداءا من القرن الخامس عشر ميلادي .
ولد نيكولاس كوبرنيك سنة 1473 م , و قام بدراسة حركات الكواكب و توصل سريعا إلى استنتاج أن منظومة بطليموس المكونة من الدوائر و فلك التدوير لا تستطيع أن تفسر حركات الأرض المرصودة باعتبارها مركز الكون , و قرر في النهاية أن الشمس هي التي يجب أن تكون مركز الكون و أن كل الكواكب بما فيها الأرض تدور حولها . و يبدو هذا المفهوم واضحا اليوم و لكنه كان وقتها مزلزلا , خاصة و أنه يتناقض مع عقيدة الكنيسة التي تقضي بأن الأرض هي أهم الأجرام السماوية , لذلك و تحسبا لنتائج وخيمة لم ينشر كوبرنيك نظريته إلا سنة 1543 م سنة وفاته .
لم يكن كل الذين أتوا بعد كوبرنيك متفقين معه على مركزية الشمس , و أشهر هؤلاء الفلكي الدانماركي تيخو براهي الذي بنى و جهز مرصدا كبيرا على جزيرة هفن , و هناك قام تيخو براهي بأرصاد للنجوم و الكواكب فاقت كل الأعمال السابقة دقة و تفصيلا . و قد اعترض تيخو براهي على نظرية مركزية الشمس التي وضعها كوبرنيك , و لكن الطريف في الأمر أن أرصاده الفلكية مكنت تلميذه كبلر من إثبات حقيقة دوران الأرض فعلا حول الشمس .
توفي تيخو براهي سنة 1601 م و بدأ كبلر العمل اعتمادا على أرصاده لإيجاد تفسير لحركة الكواكب , و استنتج بعد سنوات من البحث أن كل ذلك يمكن تفسيرهإذا فرضنا أن الشمس هي المركز , و أن الكواكب تدور حولها في مدارات ليست دائرية , و لكنها على شكل قطع ناقص أي إهليلجية الشكل , بمعنى أن المسافة بين الشمس و الكواكب تتغير وفق نقط المدار . و هكذا لم يحقق كبلر مركزية الشمس فحسب , بل هدم المفهوم القديم بأن الأفلاك دائرية الشكل , و قد وضع كبلر قوانين أساسية ثلاثة لحركة الكواكب :
الأول : تدور الكواكب حول الشمس في مدارات إهليلجية تحتل الشمس إحدى بؤرتيها .
الثاني : أن المستقيم الواصل بين الكوكب و الشمس يولد بحركته مسافات فضائية متساوية في فترات زمنية متساوية , لذلك يتحرك الكوكب عند اقترابه من الشمس بسرعة أكبر من سرعته عند ابتعاده عنها .
الثالث : إن مربع الزمن الضروري لكي يكمل الكوكب دورته حول الشمس مساو لمكعب المسافة بين الكوكب و الشمس . و بمعرفة مدة دورة الكوكب في مداره تمكن كبلر من إيجاد النسبة بين أبعاد الكواكب عن الشمس باعتبار المسافة بين الأرض و الشمس وحدة قياس فلكية , فمثلا كوكب دورته في مداره 8 سنوات يبعد عن الشمس بمقدار 4 وحدات فلكية ( 8*8 = 64 , 4*4*4 = 64)
و يرجع أول استخدام للمرقاب الفلكي إلى سنة 1609 م , و رغم وجود خلاف حول أول من وجه المرقاب نحو السماء , إلا أنه من المؤكد أن غاليليو غاليلي الإيطالي كان أول من فعل ذلك بشكل منهجي , و قام بتقييم ما رصده من خلاله . فقد سمع غاليليو و كان أستاذا للرياضيات في بادوا , عن اختراع المرقاب من طرف صانع النظارات الهولندي ليبرشي , فبدأ بصنع مرقاب خاص به . و رغم صغر الجهاز الذي صنعه غاليليو , فقد مكنه من رؤية جبال و فوهات على سطح القمر , و بقع على الشمس , و توابع أي أقمار تدور حول المشتري , و تبين له أن مجرتنا درب التبانة عبارة عن أعداد ضخمة من النجوم , كما أنجز الكثير من الإكتشافات التي لم تكن في الحسبان . و بناءا على أرصاده أصبح غاليليو مقتنعا بنظرة كوبرنيك عن الكون , مما أسفر عنه تقديمه لمحاكم التفتيش باعتبار أفكاره مخالفة للتصورات الكنسية , فاضطر للعدول علنيا عن هذا الإفتراض , و عاش بقية حياته في إقامة جبرية .
توفي غاليليو سنة 1642 م , و هي السنة التي ولد فيها العالم البريطاني إسحاق نيوتن , و قد صمم نوعا جديدا من المرقابات العاكسة الذي يستخدم مرآة لتجميع الضوء بدلا من العدسة , و يسمى هذا النوع من المرقابات بإسمه . و إذا كان كبلر قد أوضح كيف تتحرك الكواكب في مداراتها , فإن نيوتن بين أسباب هذه الحركة , و يحكى أن نيوتن شاهد مرة تفاحة تسقط من شجرة , فتساءل عن علة ذلك السقوط , و قاده حبل أفكاره إلى اقتراح فكرة الجاذبية العالمية . فبين نيوتن أن كل جسم ينجذب نحو كل جسم آخر بقوة تعتمد على كتلتي الجسمين و عكس مربع المسافة بينهما , فإذا زادت المسافة إلى الضعف , نقصت القوة إلى الربع . هذه القوة التي هي من الضآلة بحيث لا يمكن ملاحظتها بين الأجسام الصغيرة , تظهر جلية في حالة الأجرام السماوية , فالجاذبية تحفظ الكواكب سريعة الحركة في مداراتها بدلا من تركها تطير بعيدا عن الشمس . أوضح نيوتن مقدار جاذبية الأرض على القمر، وكذلك أن كتلة القمر تجذب السوائل الموجودة على سطح الأرض ،وتتسبب في ظاهرتي المد والجزر في المحيطات .
التطور السريع لعلم الفلك
بعد نيوتن تسارع التطور بحيث لم يعد في الإمكان إلا ذكر بعض أحداث القرون التالية , فقد أسس مرصد باريس سنة 1671 م , و أسس المرصد الملكي في غرينتش ببريطانيا سنة 1675 م و الذي تقرر أن يمر به خط الصفر للقياسات الطولية للأرض , و أصبحت غرينتش و هي بلدة صغيرة قرب لندن مركز منظومة التوقيت الدولي .
ثم اكتشف السير وليام هرشل , أكبر فلكيي الرصد , كوكب أورانوس سنة 1781 م و هو أبعد من زحل بواسطة المرقابات التي صنعها بنفسه و التي تعتبر أفضل مرقابات عصره , و رصد توزيع النجوم مكتشفا حركة الشمس في الفضاء .
و في سنة 1838 م قام بيسيل بقياس المسافة إلى النجم 61 في صورة الدجاجة باستخدام طريقة اختلاف المنظر , و هي أول بعد نجمي أمكن قياسه . و اختلاف المنظر هو نصف الفرق الزاوي بين موضعي النجم خلال فترة ستة أشهر التي تقطع فيها الأرض نصف فلكها , و بمعرفته نحصل بحساب المثلثات على بعد النجم .
ثم اكتشف كوكب نبتون , و هو أبعد بكثير من كوكب أورانوس , سنة 1846 م بعد أن توقع بوجوده قبل رصده الفلكيين آدمز و لوفيرييه بناءا على حسابات رياضية .
و في سنة 1863 م تعرف هيغنز على بعض العناصر المكونة للنجوم باستخدام مقياس الطيف .
و آخر كوكب عرف في المجموعة الشمسية هو كوكب بلوطون, و قد أكتشف سنة 1930 م و له مسار منعزل في أعماق الفضاء .
و منذ 1945 م بدأ الفلكيون باستخدام تقنيات جديدة كالمرقابات الراديوية مثلا .
فروع علم الفلك
تعدّدت فروع علم الفلك بتطوّر أساليب البحث و تقنيات الرّصد و تقدّم العلوم الأخرى. إذ أنّ علم الفلك علم شامل، و الباحث فيه عليه إتقان الرّياضيات و الفيزياء بالخصوص، ولكن كذلك الكيمياء و حتّى البيولوجيا (لمن يريد دراسة إمكانية الحياة على سطح الكواكب الأخرى مثلا). و الرّاصد عليه إتقان تقنيات عديدة كالإلكترونيك و الحاسوب مثلا. و من أهمّ فروع علم الفلك الحديث نذكر:
1. قياس مواقع النّجوم (Astrometry):
و هو الفرع الّذي يرمي إلى قياس مواقع النّجوم في السّماء بدقّة كافية و رصد تحرّكاتها.
2. الميكانيكا السّماوية (Celestial Mechanics):
يهدف إلى رصد حركة الكواكب و الأقمار في مجموعتنا الشّمسية و التنبّؤ بهذه الحركة في ظلّ قانون الجاذبية. و هو علم دقيق جدّا، إذ يمكن من خلاله حساب زمن خسوف القمر بدقّة، و هذا عشرات السّنين قبل حدوثه .
3. الفيزياء الفلكية (Astrophysics):
والّتي تضم العديد من الشّعب كدراسة طبيعة الكواكب و فيزياء النّجوم و دراسة تكوين الأبنية الكبرى و دراسة محيط ما بين النّجوم...
4. فيزياء الكون (Cosmology):
و هو يدرس الكون بمجمله و بجميع مكوّناته بنظرة شاملة، و يهدف إلى دراسة تكوينه و مستقبله، وهو علم يشهد حاليا إقبالا و اهتماما كبيرين من طرف الفلكيين.
و الباحث في علم الفلك الحديث عليه أن يختصّ في واحدٍ من هذه الفروع اختصاصا عميقا، إذ أنّ كلّ فرع يكاد يشكّل لوحده علما منفردا ! ولكن مع هذا فإنّ عالم الفلك عليه معرفة المفاهيم الأساسية في جميع الفروع الأخرى الّتي لا تزال مرتبطة على كلّ حال.
منقووووووووووووول